فصل: فتنة المير إبراهيم صاحب قسنطينة مع الزواودة ووفاة يعقوب بن علي ثم وفاة الأمير إبراهيم أثرها:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تاريخ ابن خلدون المسمى بـ «العبر وديوان المبتدأ والخبر في أيام العرب والعجم والبربر ومن عاصرهم من ذوي السلطان الأكبر» (نسخة منقحة)



.فتنة المير إبراهيم صاحب قسنطينة مع الزواودة ووفاة يعقوب بن علي ثم وفاة الأمير إبراهيم أثرها:

كان للزواودة بقسنطينة عطاء معلوم مرتب على مراتبهم زيادة لما بأيديهم من البلاد في التلول والزاب بأقطاع السلطان وضاق نطاق الدولة لهذه العصور فضاقت الجباية وصارت العرب يزرعون الأراضي في بلادهم بالمسيل ولا يحتسبون بمغارمها فضيق الدخل يمنعهم العطاء من أجل ذلك فتفسد طاعتهم وتنطلق بالعيث والنهب أيديهم ولما رجع الأمير إبراهيم من حركته في ركاب أبيه إلى قابس وكان منذ أعوام ينقص من عطائهم لذلك ويعللهم بالمواعيد فلما قفل من قابس اجتمعوا إليه وطلبوا منه عطاءهم فتعالى وجاءه يعقوب بن علي مرجعه من الحج وأشار عليه بإنصاف العرب من مطالبهم فأعرض عنه وارتحل لبعض مذاهبه وتركه ونادي في العرب بالفتنة معه يروم استئلاف أعدائه فأجابه الكثير من أولاد سباع بن شبل وأولاد سباع بن يحيى وباديتهم من ذؤبان ورياح وخرج يعقوب من التل فنزل على نفاوس فأقام بها وانطلقت أيدي قومه على تلول قسنطينة بالنهب وانتساف الزرع حتى اكتحسوا عامتها ولحقوا به مالئي اليد مثقلي الظهر.
ثم طرقه المرض فهلك سنة تسعين وسبعمائة ونقلوا شلوه إلى بسكرة فدفنوه بها وقام مكانه في قومه ابنه محمد واستمر على العصيان وصعد إلى التل في منتصف إحدى وتسعين وسبعمائة واستألف الأمير إبراهيم أعداءه من الزواودة وأحلافهم من البادية جنح إليه أبو ستة بن عمر أخو يعقوب بن علي بما معه من أولاد عائشة أم عمر وخالفه أخوه صميت إلى محمد بن يعقوب وتحاربوا مع الأمير إبراهيم فهزموه وقتل أبو ستة ثم جمع السلطان لحربهم ودفع عن التلول ومنعهم من المصيف عامهم ذلك وانحدروا إلى مشاتيهم وعجزوا بعدها عن الصعود إلى التلول وقضوا مصيفهم عامهم ذلك بالزاب وانحدروا منه إلى المشاتي فلما رجعوا من مشايتهم وقد فقدوا الميرة انطلقت أيديهم على نواحي الزاب فانتسفوا زروعه وكان أن يفسد ما بينهم وبين ابن مزني مظاهرهم على تلك الفتنة ثم ارتحلوا صاعدين إلى التلول وقد جمع الأمير إبراهيم لدفاعهم عنه وبينما هو في ذلك ألم به طائف من المرض فتوفي سنة اثنتين وتسعين وسبعمائة وافترقت جموعه وأغذ محمد بن يعقوب السير إلى نواحي قسنطينة فاحتل بها مظهرا للطاعة متبرئا من الخلاف ونادى في أهل البلاد بالأمان العمارة فصلحت أحوال الرعايا والسابلة وبعثوا إلى السلطان بتونس مستأمنين مستعتبين فأمنهم وأعتبهم وأقام بقسنطينة مكان إبراهيم ابنه وبعث من حضرته محمد ابن مولاه بشير لكفايته والقيام بدولته فقام بأمرها وصلحت الأحوال والله بيده تصاريف الأمور.

.منازلة نصارى الإفرنج المهدية.

كانت أمة الفرنج وراء البحر الرومي في الشمال قد صار لهم تغلب ودولة بعد انقراض دولة الروم فملكوا جزائره ومثل: سردانية وميورقة وصقلية وملأت أساطيلهم فضاءه وتخطوا إلى سواحل الشآم وبيت المقدس فملكوها وعادت لهم سورة الغلب في هذا البحر بعد أن كانت سورة المسلمين فيه لا تقاوم إلى آخر دولة الموحدين بكثرة أساطيله ومراكبه فغلبهم الفرنج وعادت السورة لهم وزاحمتهم أساطيل المغرب لعهد بني مرين أياما ثم فشل ريح الفرنجة واختل مركز دولتهم بإفرنسة وافترقت طوائف في أهل برشلونة وجنوة والبنادقة وغيرهم من أمم الفرنجة النصرانية وأصبحوا دولا متعددة فتنبهت عزائم كثيرة من المسلمين بسواحل أفريقية لغزو بلادهم وشرع في ذلك أهل بجاية منذ ثلاثين سنة فيجتمع النفير والطائفة من غزاة البحر يضعون الأسطول ويتخيرون له أبطال الرجال ثم يركبونه إلى سواحل الفرنجة وجزائرهم على حين غفلة فيتخطفون منها ما قدروا عليه ويصادمون ما يلقون من أساطيل الكفرة فيظفرون بها غالبا ويعودون بالغنائم والسبي والأسرى حتى امتلأت سواحل الثغور الغربية من بجاية بأسراهم تضج طرق البلاد بضجة السلاسل والأغلال عندما ينتشرون في حاجاتهم ويغالون في فدائهم بما يتعذر منه أو يكاد فشق ذلك على أمم الفرنجة وملأ قلوبهم ذلا وحسرة وعجزوا عن الثأر به وصرخوا على البعد بالشكوى إلى السلطان بأفريقية فصم عن سماعها وتطارحوا سهمهم ونكلهم فيما بينهم وتداعوا النزول المسلمين والأخذ بالثأر منهم.
وبلغ خبر استعدادهم إلى السلطان فسرح ابنه الأمير أبا فارس يستنفر أهل النواحي ويكون رصدا للأسطول هنالك واجتمعت أساطيل جنوة وبرشلونة ومن وراءهم ويجاورهم من أمم النصرانية وأقلعوا من جنوة فحطوا بمرسى المهدية منتصف اثنتين وتسعين وسبعمائة وطرقوها على حين غفلة وهو على طرف البر داخل في البحر كأنه لسان دالع فأرسوا عندها وضربوا عند أول الطرق سورا من الخشب بينه وبين البر حتى صار المعقل في حكمهم وعالوا عليه بالأبراج وشحنوها بالمقاتلة ليتمكنوا من قتال البلد ومن يأتيهم من مدد المسلمين وصنعوا برجا من الخشب من جهة البحر يشرف على أسوارها المعقل لتعظم نكايتهم وتحصن أهل البلد وقاتلوهم صابرين محتسبين وتوافت إليهم الأمداد من نواحي البلد فحال دونهم الفرنجة.
وبلغ الخبر إلى السلطان فأهمه أمرها وسرح العساكر تترى إلى مظاهرتهم ثم خرج أخوه الأمير أبو يحيى زكريا وسائر بنيه فيمن حضره من العساكر فانطلقوا لجهاد هذا العدو واستنفر المقاتلة من الأعراب وغيرهم فاجتمعت بساحتها أمم وألحوا على الفرنجة بالقتال ونضح السهام حتى أحجروهم في سورهم وبرز الفرنجة للقتال فكان بينهم وبين المسلمين جولة جلى فيها أبناء السلطان وكاد الأمير أبو فارس منهم أن يتورط لولا حماية الله التي وقته ثم تداركت عليهم الحجارة والسهام والنفط من أسوار البلد فاحترق البرج المطل عليها من جهة البحر فوجموا لحريقه ثم ركبوا من الغد أسطولهم وأقلعوا إلى بلادهم وخرج أهل المهدية يتباشرون بالنجاة ويتنادون بشكر الأمراء على ما اعتمدوه في نصرهم {ورد الله الذين كفروا بغيظهم لم ينالوا خيرا وكفى الله المؤمنين القتال}
وأمر الأمير أبو يحيى برم ما تثلم من أسوارها ولم ما تشعث منها وقفل إلى تونس وقد أنجح الله قصدهم وأظهرهم على عدوه وعدوهم والله تعالى ينصر من يشاء وهو القوي العزيز.